صوت ألعمال في إسرائيل
menu
يوم الخميس 28 آذار 2024
histadrut
Created by rgb media Powered by Salamandra
ألأخبار

راي /

بمناسبة مرور 41 سنة على توقيع اتفاقية السلام مع مصر، الدكتور عبد الله الشلبي، محاضر للعلوم الاجتماعية في جامعة عين الشمس في القاهرة، في مقال عن الخطوات المطلوبة لبناء السلام الحقيقي

بقلم الدكتور عبد الله الشلبي

على الرغم من أن معاهدة السلام المصرية الاسرائيلية قد نصت في أحد بنودها على ضرورة إقامة علاقات طبيعية بين مصر واسرائيل في جميع المجالات وكما أشرت قبلاً في مقال سابق؛ إلا أن واقع الحال وعلى امتداد ما يقرب من (41) عاماً يشير إلى غير ذلك. فعلى الرغم من المعاهدة وبنودها فالواقع هو غياب السلام الحقيقي بين الشعبين في كل من مصر واسرائيل. وإذا كانت المعاهدة قد أنهت حالة الحرب بين البلدين وإلى الابد، وأقرت السلام وعملت على الحفاظ عليه وصيانته؛ إلا أن الشاهد هو غياب مرحلة مهمة وأساسية وهي مرحلة بناء السلام حتى اللحظة الراهنة. نعم لدينا سلاماً على صعيد الدولتين وفي المستويات الرسمية وعلى حد تعبير السفير الاسرائيلي في واحد من لقاءته في مركز ابن خلدون للدراسات الانمائية بالقاهرة بوجود تنسيق وعلى أعلى المستويات بين الدولتين؛ إلا أن الشاهد هو غياب السلام على مستوى الجماهير، وأود هنا أن أذكر عدداً من الوقائع والخبرات الذاتية والموضوعية الدالة على هذا الغياب:

– في مقال لي يناقش معتقد منع التطبيع وكيف تحول إلى تابو وصار من المحرمات الثقافية والدينية التي تتغذى على الأوهام والأساطير والنبوءات التي تدعي تدمير وزوال دولة اسرائيل ونشر باللغتين العربية والعبرية على موقع معهد دراسات الامن الإقليمي وهو معهد مرموق ويتبع جامعة تل أبيب INSS
(The Institute for National Security Studies) كانت ردود الافعال عنيفة للغاية وتراوحت ما بين السباب الذي طال أمي في قبرها مروراً بتهم العمالة والخيانة والكفر والخروج من الملة، ووصولاً إلى تهديدات بالقتل.

– أما الوقائع والخبرات الموضوعية فأنا أرصدها في موقف ما يسمى بالجماعة الوطنية والنخب المثقفة من المبدع والكاتب المسرحي المرحوم (علي سالم) بعد زيارته لإسرائيل، والموقف من جماعة كوبنهاجن وفي مقدمتها المرحوم الكاتب والمفكر (لطفي الخولي) والعالم الفيلسوف الأستاذ الدكتور (مراد وهبة). وفي الدراما التليفزيونية والأفلام السنيمائية ولعل أقربها فيلم الممر الذي عرض منذ ما يزيد على الشهر تقريباً وكيف احتجب المصريون في بيوتهم أمام شاشات التليفزيون لمشاهدة الفيلم الذي أعادهم إلى أجواء حرب الاستنزاف وما قبل حرب اكتوبر1973 ومعاهدة السلام 1979.انا لا مانع لدي في الاحتفاء بالأحداث الوطنية وتمجيدها ولكن أن تعاود إثارة النزاعات والصراعات والاحقاد التاريخية وإثارة الكراهية والتعصب والرغبة في الانتقام والثأر برغم أننا لن نحارب ثانيا وفقا للمعاهدة، فهي أمور من شأنها أن تعوق بناء سلام حقيقي بين الدولتين.

وهذه الشواهد التي ذكرتها، وغيرها كثير، أشرت لبعضها قبلاً ، وأنا اترك للمهتمين بالقضية للحديث عن الداخل الاسرائيلي، في تقديري، هي شواهد تؤكد غياب مرحلة مهمة في مسار السلام المصري / الاسرائيلي وأعني بها مرحلة بناء السلام التي تقتضي حزمة من ضرورات تشييد البنى الأساسية للسلام وبصفة خاصة على الصعيد الثقافي والتي يمكنها أن تساعد طرفي النزاع على العبور الجاد من حالة النزاع والصراع إلى حالة السلام الايجابي وهي مرحلة طويلة وممتدة ضاع منها ما يقرب من واحد وأربعين (41) عاماً التي كان من المفترض أن يتم خلالها بناء وتشغيل الاستراتيجيات والخطط والبرامج والتدابير والإجراءات التي تأخذ على عاتقها مهمة تصحيح مفاهيم العدوانية والكراهية والأحقاد التاريخية عبر برامج تعليمية وإعلامية وثقافية وأخلاقية مشتركة ترسخ لقيم مناهضة العنف خاصة بين الأجيال الجديدة الوافدة، وقيم السلام، والتسامح، وقبول الحق في الاختلاف والتعايش معه، وحقوق الأنسان وفي مقدمتها الحق في الحياة، والديمقراطية، والمجتمع المدني وصولاً إلى الركيزة الاساسية التي لا غنى عنها في بناء السلام، في تقديري، وهي العلمانية وتخلق تيار علماني يترسخ لدى الجماهير أو لدى ما أصبح يعرف مع منجزات الثورة العلمية والتكنولوجية في مجالات الاتصالات بإنسان الجماهير، وأعني تحديداً العلمانية كمعتقد وأسلوب في الحياة وفي تنظيم وإدارة الدولة والمجتمع، ولزوم هذا التيار العلماني تأتي لمواجهة التيارات الأصولية الدينية التي تهدد دوماً بتفجر النزاع والصراع في منطقتنا، وأنا هنا أطرح مسألة مرحلة بناء السلام بغض النظر عن الممارسات الصراعية بين الإسرائيليين والفلسطينيين وهي الممارسات التي تطلب جهوداً صادقة وجادة لأجل خلق الظروف الموضوعية العادلة لمصالحة تاريخية بينهما تستند إلى القرارات الأممية وحق تقرير المصير وحل الدولتين.

وتطرح العلمانية كمعتقد وكأسلوب للحياة وادارة وتنظيم المجتمع والدولة، وباعتبار العلمانية طريق لبناء السلام الحقيقي والايجابي؛ ذلك أن منطقة الشرق الأوسط تعيش في ظل أصوليات دينية متصارعة وتستند إلى مفاهيم الحاكمية الإلهية وحاكمية النصوص المقدسة في الديانات الإبراهيمية الثلاثة وهي تجعل الله وليس البشر هو من يحكم العالم، والأصولية وفق هذا المعنى هي الباعث على الكراهية والعنف والإرهاب الذي يعتبر أعلى مراحلها. وتُطرح العلمانية كبديل للأصولية الدينية، وتقرر العلمانية أن تنظيم العالم وادارته تتم وفق العقل والعلم والمصلحة وتواجه الارهاب الأصولي الباعث على التعصب والعنف تجاه الآخر المختلف بالنظر إلى اعتماد العلمانية على النسبية التي تفضي إلى رؤية البشر لقيم متنوعة يمتنع معها ادعاء أي طرف أو جهة تفرده بامتلاك الحقيقة.

وانا أرغب هنا في الإشارة إلى مشروع (إيهود بارك) رئيس الوزراء الاسرائيلي في 20/8/2000 لإقرار دستور علماني لإسرائيل يقوم على أسس علمانية بالإضافة إلى إصلاح نظام التعليم وقوانين الزواج والأسرة والغاء وزارة الأديان، إلا أن الاصولية اليهودية المتمثلة على الصعيد السياسي في حزب الليكود هاجمت مشروع بارك بضراوة لا تقل بحال عن عنف وضراوة الأصوليين الاسلاميين عندنا لمجرد الدعوة إلى حذف المادة الثانية من الدستور المصري وغيرها من المواد التي تؤسس للدولة الدينية وتنتقص من حقوق المواطنة، وكانت دعوى الليكود في هجومه على مشروع (باراك) أنه يسعى إلى تقسيم الشعب اليهودي واشعال صراعات وحروب ثقافية داخل المجتمع الاسرائيلي وبعد هذا الهجوم توارى (باراك) وتوارت دعوته. فالأصولية الدينية أيا كانت هويتها، يهودية ، مسيحية، إسلامية، على الضد من التلاقح الثقافي وضد تمثل أية ثقافات مغايرة وهي ضد التسامح وقبول الحق في الاختلاف والتعايش معه وهي مولدة للعنف والارهاب على نحو ما ذكرت قبلاً وذلك لاعتبارين الاعتبار الأول، أن الأصولية الدينية تتأسس على تصور المطلق الأصولي( الله، الرب…) وحال تعدد هذه المطلقات تنتفي عنها صفة المطلقية فتدخل في صراع من أجل البقاء ويكون البقاء للأقوى ، ويخوض البشر حروباً ضارية دفاعاً وانتصاراً لمطلقاتهم أو آلهتهم، وتاريخ الأديان يؤكد هذا التصور ولذلك تنطوي الأديان جميعها على مكون عنف في صميم بنيتها وتكوينها. والاعتبار الثاني، أن الأديان تتأسس ايضاً على فكرة الاصطفاء والاختيار؛ فاليهود هم شعب الله المختار، والمسيحيين هم ملح الأرض ونور العالم، والمسلمين هم خير أمة أخرجت للناس. وخطورة دعاوى الاصطفاء والاختيار هذه أنها تؤسس لأوهام التفوق والنقاء والخيرية والوصاية على الأغيار والمخالفين وهذه الأوهام في تداعياتها تقود إلى الطغيان والطغيان يدفع إلى العنف والتطرف والارهاب.

مصافحة ثلاثية بين رئيس الوزراء الإسرائيلي مناحيم بيغن (يمين) والرئيس الأمريكي جيمي كارتر والرئيس المصري أنور السادات ، بعد توقيع معاهدة السلام الإسرائيلية المصرية في واشنطن ، الولايات المتحدة ، 26 مارس 1979 (AP Photo/Bob Daugherty,File)
مصافحة ثلاثية بين رئيس الوزراء الإسرائيلي مناحيم بيغن (يمين) والرئيس الأمريكي جيمي كارتر والرئيس المصري أنور السادات ، بعد توقيع معاهدة السلام الإسرائيلية المصرية في واشنطن ، الولايات المتحدة ، 26 مارس 1979 (AP Photo/Bob Daugherty,File)

ويقتضي بناء السلام ضرورة إحداث تغييرات جذرية وحقيقية في مناهج التعليم وفي كل مراحله والتي تتضمن الكثير من أفكار وقيم الأصوليات الدينية على تنوعها والتي ترسخ العداء والكراهية والتعصب وشهوة الانتقام وغياب التسامح مع الأغيار والمخالفين.
يقتضي بناء السلام تدشين تحالف أكاديمي مصري / إسرائيلي لبناء السلام وهو تحالف مدعو للانفتاح ليس على ما هو داخل أسوار الأكاديميات المصرية والاسرائيلية فحسب ، وإنما تحالف ينفتح على رجل الشارع ، وانسان الجماهير الذي يعتبر إفرازاً لمنجزات الثورة العلمية والتكنولوجية في مجال الاعلام والاتصال والفضائيات والفضاء السيبراني عبر مواقع التواصل الاجتماعي المنتشرة عبر هذا الفضاء ، واتصور أننا في حاجة للانفتاح على رجل الشارع في كل من مصر واسرائيل دفاعاً عن بناء السلام الايجابي ولمواجهة الارهاب الاصولي، وتجاوز النخب التقليدية المثقفة التي تعمل على الضد من السلام وفي اتجاه معاكس تماما للتطبيع وبناء السلام الايجابي.

وفي تقديري، أن الأكاديميين المصريين الرافضين للتطبيع الثقافي والعلمي مع اسرائيل يبقون في دوائر الوهم وخداع الذات ذلك أن الثقافة ليس لها موقع جغرافي ولا تعرف العزلة بحال فمع الكوكبية ومنجزات الثورة العلمية والتكنولوجية زالت الحدود ومٌحيت المسافات وانتهت أساطير التشرنق الثقافي والهويات المتصلبة والجامدة، وأصبحنا بصدد عالم واحد بلا تقسيمات مصطنعة ومصير انساني مشترك، وعليه فالجامعات في اسرائيل مثلها مثل الجامعات في مصر مع فارق نوعي بالطبع ومثلها في أي دولة أخرى، فالجامعات لا تعرف العزلة أبداً وتؤمن بالانفتاح الثقافي والفكري والعلمي ، وعندما ترفض المؤسسات الأكاديمية المصرية التطبيع أو تتخذ موقفاً رافضاً لسفر بعض أعضاء هيئات التدريس المصريين إلى اسرائيل للمشاركة في مؤتمرات علمية أو ثقافية يدعون إليها في اسرائيل فمعنى هذا الموقف في قول واحد أن هذه الجامعات تعمل على الضد من سياسة الدولة المصرية وعلى الضد من معاهدة السلام التي وقعتها مع اسرائيل والتي تؤكد بنودها على التطبيع واقامة علاقات طبيعية بين البلدين في كل المجالات.

على الرغم من معاهدة السلام لا تزال بعض الوزارات والأجهزة السيادية والأمنية في مصر تتخذ مواقف بعينها من قضية سفر الأكاديميين المصريين إلى إسرائيل فيما يتعلق بالحصول على الموافقات الأمنية ، وهذه المواقف اتصور أنها تعكس رفضاً رسمياً للتطبيع الثقافي بعيداً عن الأطر المؤسسية والرسمية وكأننا نعيش في عهود ما قبل معاهدة السلام وليس بعدها.

يقتضي بناء السلام الايجابي ضرورة إحداث تأثيرات مهمة في الرأي العام المصري والاسرائيلي لأقناعه بأن بناء السلام هو المبدأ الأول والأخير، بل والحتمي أمام الشعبين كطريق للتنمية والازدهار والتقدم الاقتصادي. وأن تعمل مؤسسات التنشئة الاجتماعية وفي مقدمتها المؤسسات التعليمية بكل مراحلها والأجهزة الأيديولوجية الأخرى، الاعلامية والدينية، في مصر واسرائيل؛ على التأكيد على المصالح المشتركة والمصير الانساني المشترك وترسيخ القيم المناهضة للعنف لدى الأجيال الجديدة بدلا من توريثها الأحقاد والصراعات التاريخية، والعمل على تشكيل تحالف أكاديمي علماني شرق أوسطي لمواجهة الاصولية الدينية وما تفرزه من عنف وتطرف وارهاب ويعمل على تعزيز السلام والعيش المشترك والآمن لكل شعوب هذه المنطقة من العالم.

ختاماً.. يا كل الناس. يا كل انسان في مصر واسرائيل.. وفي كل بقعة من بقاع منطقتنا المنكوبة بالإرهاب والتعصب والكراهية والعنف والصراعات والحروب هذه كلمتي وشهادتي اتوجه بها إليكم جميعاً:

نحن في منطقتنا في حاجة ضرورية إلى دعم وبناء مسار السلام والتسامح الانساني والمساواة بين كل أتباع الديانات والمذاهب والثقافات والقوميات والأعراق في هذه البقعة من العالم، التسامح القائم على المساواة، والعدل، وحق تقرير المصير واحترام التنوع بكل صوره وأشكاله، والتوقير والاحترام المتبادل وإلى اعتبار هذه فضائل انسانية أساسية ومتميزة واتصور أن شعوب المنطقة في حاجة إليها اليوم أكثر من أي وقت مضى. وبالقدر ذاته نحن في حاجة لوقت كاف لمواجهة ومطاردة الكراهية والتعصب واحتقار وتجاهل الآخر ونبذ منطق القوة والعنف والتعالي والغطرسة والتجبر، فجميعنا بشر لنا حقوق وحريات متساوية وعلينا واجبات ومسؤوليات مشتركة.

نحن في حاجة إلى الرقة لاستئناس الآخر وتحويله إلى صديق، نحن في حاجة إلى هدم حوائط وجدران وأسوار الفصل والعزلة والشك والارتياب والخوف وانعدام الثقة لبناء جسور السلام والأمن والعيش المشترك التي تمكننا من التلاقي مع كل اخواننا الأغيار والمخالفين في منطقتنا وفي العالم بكامله.

واليوم وفي خضم الأوضاع بالغة الخطورة التي تخبرها منطقة الشرق الأوسط يتعين علينا أن نكون راغبين وبصدق في النضال ضد التعصب والكراهية وعدم التسامح، وهو نضال يقتضي جهوداً صادقة لتحرير ضمائرنا أولاً من جرثومة التعصب ولوثة الكراهية التي تهدد بتدمير كل أشكال الحياة الانسانية ليس في مجتمعات الشرق الأوسط وحدها وانما في مناطق أخرى من عالمنا، اتصور أنها في مسعاها الشرير تؤدي إلى تدمير الحضارة الانسانية بكاملها. نعم لنا كل الحق أن نشعر بالقلق والتوجس والخوف على أمن واستقرار مجتمعاتنا، ولكننا نشعر بالقلق والتوجس والخوف بالقدر ذاته على منجزات الحضارة الإنسانية، إلا أنني اتصور أن خوفنا المشروع هذا يتعين أن يتحول بدوره ليصير قوة محفزة تعمل على دفعنا في اتجاه التحرك الجاد والقوي والفعال دفاعاً عن المشترك الانساني وانتصاراً لكل القيم الانسانية النبيلة في كل الأديان والثقافات.
ختاماً لكم مودتي أنا أحبكم جميعا بكل ألوان طيفكم الدينية والثقافية والعرقية والقومية والاجتماعية…

دكتور عبدالله شلبي.
مواطن مصري يعيش في مصر الآمنة المُحبة للسلام.

محاضرة ألقيت في مركز ابن خلدون – المقطم – القاهرة في حضور وفد من الخارجية الإسرائيلية وجمع من المثقفين المصريين يوم الاثنين 2/ 12/2019​

اشترك في النشرة الإخبارية الشهرية
من خلال التسجيل، أقرّ بقبول شروط استخدام الموقع