
وفي رسالة تم تسليمها يوم الاثنين (30/10) لنتنياهو وسموتريتش، ووقع عليها 300 خبير اقتصادي، أثبت من خلالها خبراء الاقتصاد لرئيس الحكومة ووزير المالية أنهم "لا يفهمون حجم الأزمة الاقتصادية التي تواجهها إسرائيل". ومن الناحية العملية، يبدو أن خبراء الاقتصاد أنفسهم هم أولئك الذين لا يفهمون حجم الحدث.
ويشمل نص رسالة خبراء الاقتصاد تصريحات لا جدل عليها وتناقضات داخلية وتمويه للمسائل السياسية المشتعلة. من الصعب أن نجد من يخالف الرأي القائل بأن "الضربة القاسية التي تلقتها إسرائيل تتطلب تغييراً جوهرياً في ترتيب الأولويات الوطنية، وتحويلاً هائلاً للموازنات لصالح معالجة أضرار الحرب، ومساعدة المصابين والمتضررين وترميم الاقتصاد". والسؤال المهم هو عن حجم هذا التحويل "الضخم"، وأين سيتم تحويل تلك الميزانيات.
ويقدر خبراء الاقتصاد أن الحرب ستتطلب نفقات بنسبة "عشرات مليارات الشواكل، بل وأكثر" فوق ما كان مخططا له. لكن الطريقة الرئيسية التي يقترحون بها التعامل مع الاحتياجات الجديدة، أي وقف تحويل أموال الائتلافية، لا تتوافق مع الحجم الذي يشيرون إليه هم أنفسهم. أما النفقات لعام 2023، والتي تم تحديدها على أنها أموال ائتلافية، فقد بلغت قيمتها 5.68 مليار شيكل في الميزانية، منها مليار شيكل للجهاز الصحي ووزارة الأمن القومي. ومن المحتمل أن يكون جزء كبير من هذه الأموال قد تم إنفاقه بالفعل بحلول 7 أكتوبر، ولا يسمح القانون بإنفاق أو تجميد الأموال المخصصة لعام 2024 في سنة الميزانية الحالية. فالنفقات التي يمكن تجميدها أو إلغاؤها فوراً، بغض النظر عن مسألة مبرراتها، لا تكاد تذكر بالنسبة إلى احتياجات الاقتصاد اليوم.
تغيير ترتيب الأولويات المطلوبة: زيادة الإنفاق العام
إن التركيز على الأموال الائتلافية، وبشكل عام على "الوقف الفوري لتمويل جميع الأنشطة التي ليست ضرورية للمجهود الحربي وإنعاش الاقتصاد"، يعبر عن مفهوم يضر بمواطني إسرائيل حتى على المستوى الروتيني المعتاد. وبعد عقود من الدعية التي تروجها الليبرالية الجديدة، اتخذت عبارة "تغيير ترتيب الأولويات" في الخطاب الاقتصادي الإسرائيلي معنى الأولويات فقط ضمن إطار الميزانية الحالي، وذلك بمعزل عن الجدل الحيوي الدائر في العالم الغربي حول الحجم المرغوب للقطاع العام.
النقاش العام الدائر في إسرائيل يخضع للإنفاق العام القليل، والذي ينقصه سنوياً ما لا يقل عن 100 مليار شيكل ليصل إلى متوسط الدول المتقدمة. ويتمسك خبراء الاقتصاد بهذا حتى في مواجهة الاحتياجات الاقتصادية الهائلة التي جلبتها الحرب، وبالنسبة لهم فإن "التغيير" الوحيد الممكن هو تقليص الميزانيات الموجودة.
مطالبة خبراء الاقتصاد بوقف الإنفاق لا علاقة لها بتمويل الحرب، بل تأتي من عدم ثقتهم بأولويات الحكومة الحالية في الحالة الروتينية.
وهناك رسالة أكثر تفصيلاً أرسلها ووقع عليها 280 من خبراء الاقتصاد قبل الحرب، تمهيداً لإقرار الميزانية السنوية. وفي تلك الرسالة عارض الخبراء رصد الميزانيات القطاعية من خلال تقديم مبررات منطقية لمعارضتهم ، بادعاء أن سياسة الحكومة ستكون لها آثار سلبية طويلة المدى، "بسبب الزيادة غير المسبوقة في تخصيص الموارد لمؤسسات تعليمية غير رسمية للمتدينين، دون اشتراط تدريس المواد الأساسية كاملة في تلك المؤسسات، وبسبب زيادة الدعم المالي للمدرسين الدينيين ومنح قسائم لشراء الغذاء من خلال قنوات خارج نظام الرفاه الاجتماعي العادي، ودون اشتراطها بالخروج إلى العمل". وتلك ادعاءات مشروعة، لكنها لا علاقة لها بالحرب، وإخفاؤها خلف قناع بلاغي رقيق يشير إلى "المجهود الحربي" ما هو إلا ديماغوجية.
محافظ بنك إسرائيل ينصح الحكومة بتقليص حجم الإنفاق بدلاً من اضطراره لاستخدام الأدوات المتوفرة لديه
قدم محافظ بنك إسرائيل، أمير يارون، أطروحة في مؤتمر صحفي يبدو أنها تحل التناقض بين الحاجة إلى استثمار عشرات المليارات والتركيز على المليارات القليلة للأموال الائتلافية. وبحسب يارون، إذا أرسلت الحكومة إشارة إلى أسواق المال العالمية بنها تختار اقتطاع ما يمكن اقتطاعه، فإن ثقة المستثمرين ستزداد وستكون قادرة على تجنيد المزيد من الأموال. غير أن لدى إسرائيل قدرات هائلة وغير مستغلة في تجنيد رأس المال، وذلك نتيجة عقود من خنق الميزانية.
علاوة على ذلك، إذا كانت إسرائيل تواجه صعوبة حقيقية في الحصول على التمويل، فبدلاً من إرسال الحكومة لإرضاء الأسواق، يمكن لمحافظ بنك إسرائيل نفسه أن يسهل على الحكومة مهمة التمويل من خلال الأدوات التي يتحكم بها حصرياً، مثل شراء سندات دين من الحكومة الإسرائيلية. في السوق الثانوية وخفض أسعار الفائدة.
نتنياهو وسموترتش شريكان فعلياً في المقاربة التي يتبناها خبراء الاقتصاد، والأضرار بدأت بالوصول
الأمر الذي أثار الحيرة في الرسالة هو اختيار تأطيرها على أنها احتجاج على الفشل المزعوم لرئيس الحكومة ووزير المالية، في حين أن نتنياهو وسموتريتش يشتركان فعلياً في أجندة خبراء الاقتصاد. وسبق أن أعلن وزير المالية أنه سيتم إعادة بناء ميزانية 2024. وفعلياً تم تجميد ميزانية 2023 وكافة بنودها، الائتلافية وغير ذلك، لإجراء التحولات (الاقتطاعات وإعادة التخصيص) لصالح احتياجات الاقتصاد خلال الحرب.
التعامل مع التحولات كان مطلوباً في الأيام الأولى للحرب: الانتقال بين البنود بسيط نسبياً من الناحية القانونية، في حين أن زيادة الميزانية السنوية تتطلب تشريعاً في الكنيست. لكن من غير المرجح أنه بعد ثلاثة أسابيع من الحرب التي لم تلوح نهايتها بعد في الأفق، لن تعلن الحكومة عن توسيع كبير في الميزانية. من الممكن أن تكون هناك بنود لا يمكن ممارستها خلال الحرب، وهي تستحق إزاحتها، لكن هذه مسألة جانبية. وينبغي لأولئك الذين تقف احتياجات الاقتصاد ضدهم أن يركزوا على عشرات المليارات من النفقات المفقودة، وليس الدعوة إلى التقليصات، التي بدأت تحدث بالفعل في الواقع.
وتواجه الهيئات العامة خلال الأسابيع الأخيرة، صعوبة في القيام بأنشطة مهمة، لا تمنعها الجهات الأمنية وإنما ميزانياتها مجمدة. على سبيل المثال، أبلغت وزارة التربية والتعليم المدارس أن ميزانيات جيفين المخصصة للبرامج الخارجية قد تم تخفيضها بنسبة 30%، مما أدى إلى توقف الأنشطة وحتى تسريح المعلمين العاملين في القطاع الخاص. هل الحفاظ على استمرارية تعليمية عالية الجودة ومتنوعة والحفاظ على مناصب العمل، أهداف غير ضرورية في زمن الحرب؟
كذلك النفقات "غير ألضرورية" لازمة للحصانة الاجتماعية
وهناك سبب للتساؤل عما يقصده خبراء الاقتصاد عندما يكتبون: "الوقف الفوري لتمويل كافة الأنشطة التي ليست ضرورية للمجهود الحربي وإنعاش الاقتصاد". من الممكن أن ننظر إلى نظام التعليم برمته، وجزء كبير من أنظمة الصحة والرفاه الاجتماعي، باعتبارها خارجة عن المجهود الحربي، ولكن الاستثمار فيها مطلوب الآن أكثر من أي وقت مضى. سيكون من السخافة والعبثية تعطيلها الآن من أجل توفير المال، حيث ستكون هناك حاجة إلى المزيد من الأموال في المستقبل للتعويض عن أضرار الإغلاق، وبعضها – الأضرار التي لحقت بالقدرة على الحفاظ على روتين الحياة، وصمود الجبهة الداخلية، وفي حالة المواطنين الذين سيتم إهمالهم في الأيام الصعبة – لا يمكن التعويض عن تلك الأمور بتاتاً.
إن ربط تمويل النظام الأمني واحتياجات الطوارئ في تقليصات الميزانية قد يوفر بضعة شواكل على هامش الجهد الاقتصادي، ولكن من المتوقع أيضاً أن يثير هذا القرار مناقشات سياسية مريرة ومطولة حول من سيقلص من ميزانيته ومن لا وبأي حجم وكم. وبدلاً من أن تتمكن سلطات الدولة من التركيز على تلبية الاحتياجات العاجلة، وعلى التوجيه الأمثل للموارد غير المالية، فسيتعين عليها أيضاً أن تتعامل مع القيود المصطنعة في هيئة تجميد الميزانية والموافقة عليها باعتدال.
بالنسبة للحصانة الاجتماعية والاقتصادية الحالية، وكذلك لاستعادة الاقتصاد في المستقبل، فمن ألأصلح اتباع النهج المعاكس تمامًا. وينبغي للدولة أن تتصرف بسخاء ومرونة. يجب الحفاظ على أي نشاط روتيني لا يوجد عائق أمني يمنع استمراره، بل والتوسع قدر الإمكان في الأنشطة المتعلقة بالحصانة الاجتماعي. ولا بد من التعجيل بعودة الصناعات المتضررة، مثل الزراعة والبناء، إلى التشغيل الكامل قدر الإمكان، ولا بد من تسهيل حصول العمال العاطلين عن العمل على فرص عمل بديلة. ومن الأفضل تمويل كل هذه الأمور بمساعدة مخصصات جديدة من الأموال، خارج الميزانية الحالية، للسماح لأنظمة الدولة بالعمل بسلاسة وسرعة وكفاءة.