إن الضغوط التي مارستها الولايات المتحدة على لبنان وإسرائيل في سبيل الوصول إلى تسوية بشأن مسألة ترسيم الحدود البحرية بين البلدين مدفوعة بشكل كبير بتأثير مسألة الغاز. وعدا عن المصالح الإسرائيلية الداخلية التي تعتبر أي رسم لحدود إسرائيلية معترف بها دولياً وبشكل متبادل هو بمثابة إنجاز دبلوماسي وسياسي يساهم في استقرار بقاء الدولة، غير أن التغييرات في مجال الطاقة والغاز تُبيّن لنا لماذا لم يتم حتى العقد الأخير أي ترسيم للحدود البحرية الإسرائيلية.
اتفاقية ترسيم الحدود البحرية مع لبنان هي جزء من صورة استراتيجية عالمية تتلخص بمعظمها في قضية الغاز. إن قدرة الدول المعادية على التعاون في المجال البحري هي علامة مهمة على القدرة على ضمان وجود مشاريع إقليمية أكبر بكثير من حقل الغاز الواقع في المنطقة المتنازع عليها.
الحد البحري للدولة من الناحية القانونية ينقسم إلي قسمين، حتى مسافة 12 ميل بحري (حوالي 22 كيلومتر) والتي تعتبر ا منطقة سيادية للدولة. ومن ثم تليها منطقة اقتصادية حصرية للدولة (حتى مسافة 220 ميل أو حوالي 370 كيلو متر) وهي منطقة غير تابعة للدولة، ولكن يحق لها الاستفادة من موارد البحر فيها مثل الصيد والطاقة، وهذا الحق هو اقتصادي فقط. يجوز لجميع الدول الأخرى بالمرور عبر هذه المياه بحرية وحتى وضع البنى التحتية الاقتصادية فيها مثل أنابيب الغاز أو الكهرباء.
ومن الناحية العملية لم توافق أي شركة عالمية للتنقيب عن الغاز والنفط العمل في لبنان دون وجود اتفاقية، وكذلك إسرائيل امتنعت عن إصدار تصاريح للتنقيب عن الغاز في المنطقة المتنازع عليها، ولهذا يبدو الأمر وكأنه إنجاز للطرفين، غير أن الصورة الأوسع لها أهمية أكبر.
" خلق أجواء التعاون هو شرط ضروري لتنفيذ الاستثمارات في تطوير البنية التحتية"
وفي حوار له مع "دافار" قال د. عيلي رتيج، المحاضر في قسم العلوم السياسية في جامعة بار إيلان وخبير الطاقة: " إذا وجدت كلا من إسرائيل ولبنان بأنهن قادرات على التعاون في هذه المسألة، فهذا مؤشر ضروري لتطوير مشاريع أكبر في مجال الغاز. اليوم وعلى رغم ما تشهده أوروبا من نقص شديد في الغاز وعلى الرغم من رغبتها في التوقف عن شراء الغاز من روسيا، فليس عناك ما يكفي من الغاز في منطقتنا للتصدير بما يسمح بتمويل مشروع مشترك مثل أنابيب ايستميد أو حتى بناء منشأة أخرى لتصدير الغاز المُسال (LNG).
تُصدّر إسرائيل الغاز حالياً إلى مصر، وهناك يتم تسييله في المنشآت القائمة من خلال استغلال أقصى قدرات البنية التحتية الحالية – قدرة الإنتاج المحتملة في حقلي تمار وليفيتان وقدرة النقل الإسرائيلية إلى مصر عبر خط أنابيب EMG وأيضاً عبر الأردن. زيادة الصادرات تتطلب إجراء تحسينات في الإنتاج وكذلك إضافة خطوط أنابيب. لذلك، فإن الهدوء الأمني في إنتاج الغاز من خزان كاريش ضروري لهذا الجهد المربح اقتصادياً، لكن إسرائيل وقعت مذكرة تفاهم مع مصر والاتحاد الأوروبي لتصدير مُكثّف للغاز، وهو أمر غير ممكن حالياً ولن يكون ممكناً بالاعتماد على منشآت تسييل الغاز الموجودة في مصر.
"كل هذه المشاريع تتطلب أيضاً تمويلاً طويل الأجل ويقيناً أمنياً وعلى وجه الخصوص كميات كافية من الغاز. 400 BCM الذي وافقت إسرائيل على تصديره، لا توجد طريقة لتصديره في الوقت الحاضر. فقط إذا تم العثور على خزانات أكبر في منطقتنا، جنبًا إلى جنب مع خزان أفروديت في قبرص، سيكون هناك كمية كبيرة إقليمياً بما يكفي لتبرير الاستثمارات في تطوير البنية التحتية الضرورية "، كما يقول ريتيج، على الرغم من ادعاءاته في الماضي بشأن تصدير إسرائيل للغاز الذي قد تكون بحاجة له في يوم مرحلة ما.
"الغاز هو عنصر جوهري في اتفاقية ترسيم الحدود البحرية مع لبنان. إن خلق جو من التعاون، أو على الأقل إزالة التهديدات المتبادلة هو شرط أساسي للقيام باستثمارات في تطوير البنية التحتية، سواء كانت استكشاف الغاز، أو تطوير المستودعات أو مد أنابيب إلى أوروبا ".
تكشف الآراء عن المصلحة الاقتصادية
حيث قررت إسرائيل عدم زيادة احتياطيات الغاز للاقتصاد المحلي، والمصلحة الأساسية لإسرائيل اليوم هي تطوير خزانات إضافية هي مصلحة اقتصادية، وهي العثور على المزيد من الغاز وبيعه بأعلى سعر ممكن. إلى جانب ذلك هناك مصلحة سياسية ولو محدودة في مساعدة أوروبا على استبدال الإمدادات من روسيا.
تم شرح المصلحة الاقتصادية الإسرائيلية بالتفصيل يوم الأربعاء (10/12) عند نشر صيغة الاتفاقية بالعبرية والتقارير المرفقة بها. "ستساعد الاتفاقية على زيادة فرصة عمل الشركات الدولية في إسرائيل فيما يتعلق بحقول الغاز الحالية وحقول الغاز الإضافية التي قد يتم اكتشافها لاحقًا. وقد يكون لذلك آثار إيجابية على اقتصاد الطاقة في إسرائيل، حيث من المتوقع أن تدر أرباحاً مالية كبيرة لإسرائيل وكلما تم من خلال الإجراء التنافسي تقسيم الكتل المجاورة للمنطقة المتنازع عليها، سيكون من الممكن البحث عن مصادر إضافية للطاقة التي تحتاجها دولة إسرائيل ويمكن حتى المساعدة في زيادة حجم الصادرات إلى أوروبا، التي هي في أمس الحاجة للغاز الطبيعي "، هذا ما صرحت به المستشارة القانونية للحكومة جالي بيهاريف ميارا.
كما أن التقرير الصادر عن مجلس الأمن القومي ووزارة الخارجية يؤكد بإيجاز المصلحة المتعلقة بتطوير مستودعات الغاز وتصديره، و"بحسب وزارة الطاقة، فإن الخلاف على الحدود البحرية، إلى جانب الوضع غير المستقر للطاقة في لبنان، خلق مشهد احتكاك حول منصات الغاز الإسرائيلية في البحر الأبيض المتوسط … والتوصل إلى تفاهمات مع لبنان في هذا الشأن قد يؤدي إلى الهدوء وزيادة المعروض من الشركات الدولية التي تفكر في المنافسة في العملية التنافسية المخطط لها في إسرائيل، وبالتالي زيادة فرصة العثور على مستودعات غاز إضافية ".
وبحسب رأي حن بار يوسف القائم بأعمال مفوض النفط في وزارة الطاقة، فإن تطوير خزان كانا، الذي لا يتضح على الإطلاق كمية الغاز فيه، ليس ذا أهمية كبيرة، إنما هو ضروري لضمان السلام المطلوب لإنتاج الغاز من مستودع كاريش الإسرائيلي، ولخمس كتل من المياه الاقتصادية واستكشاف الغاز ممكن فيها، والتي تقع بالقرب من الحدود وربما تصبح الآن ذات صلة بعمليات بحث جديدة.
صعوبات في جذب المستثمرين
سيظل لبنان يواجه صعوبة في جذب المستثمرين لاستثمارات الغاز على الرغم من الصعوبات في التنقيب عن الغاز، فقد تمكنت إسرائيل من تشجيع تطوير ثلاثة مستودعات في مناطقها البحرية، مقارنة بعدم وجود أي تطوير في لبنان، الذي يكفي إنتاجه من الكهرباء حالياً لبضع ساعات في اليوم. عدم الاستقرار السياسي في لبنان عامل يبعد شركات الغاز عنه وعن المنطقة.
مايك أزار، الذي يعمل على إيجاد الحلول التمويلية للأزمات الاقتصادية في لبنان يشكك في قدرة اتفاقية ترسيم الحدود البحرية على النهوض بلبنان نظراً لكثرة العقبات الأخرى التي يعاني منها البلد، وكذلك في ظل حق النقض العملي الذي يمنحه الاتفاق لإسرائيل بشأن تطوير مستودع قانا. وعلى رأيه فإن الاقتصاد اللبناني لوحده صغير وهش للغاية بحيث لا يبرر التطوير من الناحية الاقتصادية ولا يمكن تصدير الغاز الموازي إلا بموافقة إسرائيل والشركات الدولية، وفقط إذا تم العثور على كميات تجارية.
For Lebanon, a maritime boundary deal is better than none. But people need to understand what was agreed because it is being mischaracterized.
For example:
1. The parties did *not* resolve key economic issues related to hydrocarbon profit-sharing but deferred to a future date pic.twitter.com/1nefTQNLLh
— Mike Azar (@AzarsTweets) October 12, 2022
وبحسب ما نشره على موقع تويتر، فإن آلية ما لضمان التعويض الاقتصادي لإسرائيل لا بد لها أن تأتي على حساب لبنان، لكن الاتفاق لا ينص على ذلك -الأمر الذي يضع إسرائيل في موقع قوة يتيح لها إحباط أي تطوير في المنطقة القريبة من الحدود. عدم الاستقرار السياسي في لبنان قد يردع شركات الغاز عن العمل في لبنان، أكثر بكثير من ردعها عن العمل في إسرائيل.